فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

سورة الأنبياء:
قوله تعالى: {اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} الآية.
قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في أول سورة النحل فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار أخفوا النجوى فيما بينهم، قائلين: إن النَّبي صلى الله عليه وسلم ما هو إلا بشر مثلهم، فكيف يكون رسولًا إليهم؟ والنجوى: الإسرار بالكلام وإخفاؤه عن الناس. وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من دعواهم: أن بشرًّا مثلهم لا يمكن أن يكون رسولًا، وتكذيب الله لهم في ذلك جاء في آيات كثيرة، وقد قدمنا كثيرًا من ذلك، كقوله: {وما مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَاءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشرًّا رَّسُولًا} [الإسراء: 94]، وقوله: {فقالوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ واستغنى الله} [التغابن: 6] الآية، وقوله: {أَبَشرًّا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 24] وقوله: {مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشرًّا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ} [المؤمنون: 33-34]، وقوله تعالى: {مالِ هذا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق} [الفرقان: 7] الآية، وقوله تعالى: {قالوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا} [إبراهيم: 10] الآية. والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًّا، كما تقدم إيضاح ذلك.
وقد رد الله عليهم هذه الدعْوَى الكاذبة التي هي منع إرسال البشر، كقوله هنا في هذه السورة الكريمة: {وما أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا نوحي إِلَيْهِمْ فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38] الآية، وقوله تعالى: {وما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق} [الفرقان: 20]، وقوله هنا: {وما جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام وما كَانُواْ خَالِدِينَ} [الأنبياء: 8]، إلى غير ذلك من الآيات. وجملة {هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}. قيل بلد من {النجوى}. أي أسروا النجوى التي هي هذا الحديث الخفي الذي هو قولهم: هل هذا إلا بشر مثلكم. وصدر به الزمخشري، وقيل: مفعول به للنجوى. لأنها بمعنى القول الخفي. أي قالوا في خفية: {هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}. وقيل: معمول قول محذوف. أي قالوا هل هذا إلا بشر مثلكم. وهو أظهرها. لاطراد حذف القول مع بقاء مقوله. وفي قوله: {الذين ظَلَمُواْ} أوجه كثيرة من الإعراب معروفة، وأظهرها عندي: أنها بدل من الواو في قوله: {وَأَسَرُّواْ} بدل بعض من كل، وقد تقرر في الأصول: أن بدل البعض من الكل من المخصصات المتصلة، كقوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]. فقوله: {من} بدل من {الناس}: بدل بعض من كل، وهي مخصصة لوجوب الحج بأنه لا يجب إلاَّ على من استطاع إليه سبيلًا. كما قدمنا هذا في سورة المائدة.
قوله تعالى: {أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ}.
إعراب هذه الجملة جار مجرى إعراب الجملة التي قبلها، التي هي {هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} [الأنبياء: 3]، والمعنى: أنهم زعموا أ، ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم سحر، وبناء على ذلك الزعم الباطل أنكروا على أنفسهم إتيان السحر وهم يبصرون. يعنون بذلك تصديق النَّبي صلى الله عليه وسلم، أي لا يمكن أن نصدقك ونتبعك، ونحن نبصر أن ما جئت به سحر. وقد بين جل وعلا في غير هذا الموضع أنهم ادعوا أن ما جاء به صلى الله عليه وسلم سحر، كقوله عن بعضهم: {إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر: 24]، وقوله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات: 52]. وقد رد الله عليهم دعواهم أ، القرآن سحر بقوله هنا: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القول فِي السماء والأرض وَهُوَ السميع العليم} [الأنبياء: 4] يعني أن الذي يعلم القول في السماء والأرض الذي هو السميع العليم، المحيط علمه بكل شيء، هو الذي أنزل هذا القرآن العظيم، وكون من أنزله هو العالم بكل شيء يدل على كمال صدقه في الأخبار وعدله في الأحكام، وسلامته من جميع العيوب والنقائص، وأنه ليس بسحر. وقد أوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع: كقوله تعالى: {قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض} [الفرقان: 6] الآية، وقوله تعالى: {لَكِن الله يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ والملائكة يَشْهَدُونَ وكفى بالله شَهِيدًا} [النساء: 166] إلى غير ذلك من الآيات. وقرأ هذا الحرف حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القول} بألف بعد القاف وفتح اللام بصيغة الفعل الماضي، وقرأه الباقون {قُلْ} بضم القاف وإسكان اللام بصيغة الأمر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)}.
افتتاح الكلام بهذه الجملة أسلوب بديع في الافتتاح لما فيه من غرابة الأسلوب وإدخال الروع على المنذَرين، فإن المراد بالناس مشركو مكة، والاقتراب مبالغة في القرب، فصيغة الافتعال الموضوعة للمطاوعة مستعملة في تحقق الفعل أي اشتد قرب وقوعه بهم.
وفي إسناد الاقتراب إلى الحساب استعارة تمثيلية شبه حال إظلال الحساب لهم بحالة شخص يسعى ليقرب من ديار ناس، ففيه تشبيه هيئة الحساب المعقولة بهيئة محسوسة، وهي هيئة المغير والمُعَجِّل في الإغارة على القوم فهو يلح في السير تكلفًا للقرب من ديارهم وهم غافلون عن تطلب الحساب إياهم كما يكون قوم غارّين معرضين عن اقتراب العدوّ منهم، فالكلام تمثيل.
والمراد من الحساب إما يوم الحساب، ومعنى اقترابه أنه قريب عند الله لأنه محقق الوقوع، أو قريب بالنسبة إلى ما مضى من مدة بقاء الدنيا كقول النبي صلى الله عليه وسلم «بُعِثتُ أنا والساعة كهاتين» أو اقترب الحساب كناية عن اقتراب موتهم لأنهم إذا ماتوا رأوْا جَزاء أعمالهم، وذلك من الحساب.
وفي هذا تعريض بالتهديد بقرب هلاكهم وذلك بفنائهم يوم بدر.
أو المراد بالحساب المؤاخذة بالذنب كما في قوله تعالى: {إنْ حسابهم إلاّ على ربي} [الشعراء: 113] وعليه فالاقتراب مستعمل في حقيقته أيضًا فهو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه.
واللام في قوله: {للناس} إن أبقيت على معناها الأصلي من الاختصاص فذكرها تأكيد لمعنى اللام المقدرة في الإضافة في قوله: {حسابهم} لأن تقديره: حسابٌ لهم.
والضمير عائد إلى {الناس} فصار قوله: {للناس} مساويًا للضمير الذي أضيف إليه حساب فكأنه قيل: اقترب حساب للناس لهم فكانَ تأكيدًا لفظيًا، وكما تقول: أزف للحي رَحيلُهم، أصله أزف الرحيلُ للحيّ ثم صار أزف للحي رحيلُهم، ومنه قول العرب: لا أبَا لك، أصله لا أباكَ، فكانت لام لك مؤكدة لمعنى الإضافة لإمكان إغناء الإضافة عن ذكر اللام.
قال الشاعر:
أبالموت الذي لابد أني ** مُلاق لا أباك تخوّفيني

وأصل النظم: اقترب للناس الحساب.
وإنما نظم التركيب على هذا النظم بأن قدم ما يدل على المضاف إليه وعُرِّف {الناس} تعريف الجنس ليحصل ضرب من الإبهام ثم يقع بعده التبيين، ولِما في تقديم الجار والمجرور من الاهتمام بأن الاقتراب للناس ليعلم السامع أن المراد تهديد المشركين لأنهم الذين يُكنَّى عنهم بالناس كثيرًا في القرآن، وعند التقديم احتيج إلى تقدير مضاف فصار مثل: اقترب حساب للناس الحساب، وحذف المضاف لدلالة مفسره عليه.
ولما كان الحساب حساب الناس المذكورين جيء بضمير الناس ليعود إلى لفظ الناس فيحصل تأكيد آخر وهذا نمط بديع من نسج الكلام، ويجوز أن تكون اللام بمعنى من أو بمعنى إلى متعلقة بـ {اقترب} فيكون المجرور ظرفًا لغوًا، وعن ابن مالك أنه مَثّل لانتهاء الغاية بقولهم: تقربت منك.
وجملة {وهم في غفلة معرضون} حال من {الناس} أي اقترب منهم الحساب في حال غفلتهم وإعراضهم.
والمراد بالناس المشركون لأنهم المقصود بهذا الكلام كما يدل عليه ما بعده.
والغفلة: الذهول عن الشيء وعن طرق علمه، وقد تقدمت عند قوله تعالى: {وإن كنا عن دراستهم لغافلين} في سورة [الأنعام: 156]، وقوله تعالى: {ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين} في [سورة الأعراف: 146].
والإعراض: صرف العقل عن الاشتغال بالشيء.
وتقدم في قوله: {فأعرض عنهم وعظهم} في سورة [النساء: 63]، وقوله: {فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره} في سورة [الأنعام: 68].
ودلت في على الظرفية المجازية التي هي شدة تمكن الوصف منهم، أي وهم غافلون أشد الغفلة حتى كأنهم منغمسون فيها أو مظروفون في محيطها، ذلك أن غفلتهم عن يوم الحساب متأصلة فيهم بسبب سابق كفرهم.
والمعنى: أنهم غافلون عن الحساب وعن اقترابه.
وإعراضهم هو إبايتهم التأمل في آيات القرآن التي تذكرهم بالبعث وتستدل لهم عليه، فمتعلق الإعراض غير متعلق الغفلة لأن المعرض عن الشيء لا يعد غافلًا عنه، أي أنهم لما جاءتهم دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان وإنذارهم بيوم القيامة استمروا على غفلتهم عن الحساب بسبب إعراضهم عن دلائل التذكير به.
فكانت الغفلة عن الحساب منهم غير مقلوعة من نفوسهم بسبب تعطيلهم ما شأنه أن يقلع الغفلة عنهم بإعراضهم عن الدلائل المثبتة للبعث.
{مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ استمعوه وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاَهِيَةً}.
جملة مبينة لجملة {وهم في غفلة معرضون} [الأنبياء: 1] لبيان تمكن الغفلة منهم وإعراضهم، بأنهم إذا سمعوا في القرآن تذكيرًا لهم بالنظر والاستدلال اشتغلوا عنه باللعب واللهو فلم يفقهوا معانيه وكان حظهم منه سماع ألفاظه كقوله تعالى: {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون} في سورة [البقرة: 171].
والذكر: القرآن أطلق عليه اسم الذكر الذي هو مصدر لإفادة قوة وصفه بالتذكير.
والمحدَث: الجديد. أي الجديد نزوله متكررًا، وهو كناية عن عدم انتفاعهم بالذكر كلما جاءهم بحيث لا يزالون بحاجة إلى إعادة التذكير وإحداثه مع قطع معذرتهم لأنه لو كانوا سمعوا ذكرًا واحدًا فلم يعبأوا به لانتحلوا لأنفسهم عذرًا كانوا ساعتئذ في غفلة، فلما تكرر حدثان إتيانه تبين لكل منصف أنهم معرضون عنه صدًا.
ونظير هذا قوله تعالى: {وما يأتيهم من ذكر من الرحمان محدث إلا كانوا عنه معرضين} في سورة [الشعراء: 5]، وليس المراد بمحدث ما قابل القديم في اصطلاح علم الكلام لعدم مناسبته لسياق النظم.
ومسألة صفة كلام الله تعالى تقدم الخوض فيها عند قوله تعالى: {وكلم الله موسى تكليمًا} في سورة [النساء: 164].
وجملة {استمعوه} حال من ضمير النصب في {يأتيهم} وهذا الحال مستثنى من عموم أحوال أي ما يأتيهم ذكر في حال إلا في حال استماعهم.
وجملة {وهم يلعبون} حال لازمة من ضمير الرفع في {استمعوه} مقيّدة لجملة {استمعوه} لأن جملة {استمعوه} حال باعتبار أنها مقيّدة بحال أخرى هي المقصودة من التقييد وإلاّ لصار الكلام ثناء عليهم.
وفائدة هذا الترتيب بين الجملتين الحاليتين الزيادةُ لِقطع معذرتهم المستفاد من قوله: {مُحْدَث} كما علمت.
و{لاهية قلوبهم} حال من المبتدأ في جملة {وهم يلعبون} وهي احتراس لجملة {استمعوه} أي استماعًا لا وعي معه.
{وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ}.
جملة مستأنفة يجوز أن تكون عطفًا على جملة {اقترب للناس حسابهم} [الأنبياء: 1] إلى آخرها، لأن كلتا الجملتين مسوقة لذكر أحوال تلقي المشركين لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم بالتكذيب والبهتان والتآمر على رفضها. فالذين ظلموا هم المراد بالناس كما تقدم.
وواو الجماعة عائد إلى ما عاد إليه ضمائر الغيبة الراجعة إلى {للناس وليست جملة وأسروا النجوى} عطفًا على جملة {استمعوه وهم يلعبون} لأن مضمونها ليس في معنى التقييد لِما يأتيهم من ذكر.
و{الذين ظلموا} بدل من واو الجماعة لزيادة تقرير أنهم المقصود من النجوى، ولما في الموصول من الإيماء إلى سبب تناجيهم بما ذكر وأن سبب ذلك كفرهم وظلمهم أنفسهم، وللنداء على قبح ما هم متصفون به.
وجملة {هل هذا إلا بشر مثلكم} بدل من {النجوى} لأن ذلك هو ما تناجوا به، فهو بدل مطابق.
وليست هي كجملة {قالوا إنّ هذاننِ لساحران من جملة فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى} في سورة [طه: 6263] فإن تلك بدل بعض من كل لأن ذلك القول هو آخر ما أسفرت عليه النجوى.
ووجه إسرارهم بذلك الكلام قصدهم أن لا يطلع المسلمون على ما تآمروا به لئلا يتصدى الرسول صلى الله عليه وسلم للرد عليهم لأنهم علموا أن حجتهم في ذلك واهية يرومون بها أن يضللوا الدهماء، أو أنهم أسروا بذلك لفريق رأوا منهم مخائل التصديق لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لما تكاثر بمكة الذين أسلموا فخشوا أن يتتابع دخول الناس في الإسلام فاختلَوا بقوم ما زالوا على الشرك وناجَوْهم بذلك ليُدخلوا الشك في قلوبهم.
والنجوى: المحادثة الخفية.
والإسرار: هو الكتمان والكلام الخفي جدًّا.
وقد تقدم الجمع بينهما في قوله تعالى: {ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم} في سورة [براءة: 78]، وتقدم وجه جعل النجوى مفعولًا لـ: {أسروا} في قوله تعالى: {وأسروا النجوى في} [سورة طه: 62]، أي جعلوا نجواهم مقصودة بالكتمان وبالغوا في إخفائها لأن شأن التشاور في المهم كتمانه كيلا يطلع عليه المخالف فيفسده.
والاستفهام في قوله: {هل هذا إلا بشر مثلكم} إنكاري يقتضي أنهم خاطبوا من قارب أن يصدق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أي فكيف تؤمنون بنبوءته وهو أحد منكم.
وكذلك الاستفهام في قوله: {أفتأتون بالسحر} إنكاري وأراد بالسحر الكلام الذي يتلوه عليكم.
والمعنى: أنه لما كان بشرًّا مثلكم فما تصديقكم لنُبُوءته إلا من أثر سحرٍ سحَرَكم به فتأتون السحر بتصديقكم بما يَدعوكم إليه.
وأطلق الإتيان على القبول والمتابعة على طريق المجاز أو الاستعارة، لأن الإتيان لشيء يقتضي الرغبة فيه، ويجوز أن يراد بالإتيان هنا حضور النبي صلى الله عليه وسلم لسماع دعوته فجعلوه إتيانا، لأن غالب حضور المجالس أن يكون بإتيان إليها، وجعلوا كلامه سحرًا فنَهوا من ناجَوهم عن الاستماع إليه.
وهذا كقوله تعالى: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} في سورة [فصلت: 26].
وقوله: {وأنتم تبصرون} في موضع الحال، أي تأتون السحر وبصركم سليم، وأرادوا به العلم البديهي، فعبروا عنه بالبصر لأن المبصرات لا يحتاج إدراكها إلى تفكير. اهـ.